سمعة القوة التنفيذية بين الحقيقة والإعلام!
بقلم : رشيد ثابت
لا يوجد مثل القوة التنفيذية مؤسسة أو جهاز تعرض للافتراء عليه والتهجم الجائر كل هذا الحد. إعلام فتح وأبواق ساستها حاربوا التنفيذية من اليوم الأول الذي ظهرت فيه؛ ومارسوا معها إسقاطا ذاتيا قبيحا ومريعا؛ فرأوا أنها حيلة حماس في حجز حصة من أجهزة الوطن ومؤسساته. ربما كان هذا أكبر ثناء غير مباشر نالته القوة التنفيذية: أنّ النقد الأكبر جاءها من خلفٍ كجلد الأجرب؛ وهو خلف حوّل المؤسسة الأمنية لماخور إسقاطي كبير؛ وطابور خامس طويل لا يبدأ من بيتونيا حيث وقائي رام الله ولا ينتهي في السفينة حيث مخابرات غزة. أما ثاني أشكال الثناء على القوة التنفيذية - ثناء صدر رغم أنف أصحابه – فهو استهدافها بكثافة من قبل قوات الاحتلال؛ حتى ارتقى منها للعلا عشرات الشهداء قبل مضي أشهر على انطلاقها؛ وكانت الغارات على مواقعها تتناوب مع غارات الكلام القبيح من أفواه خونة رام الله. مع ذلك؛ فإن هذا الثناء الدموي لم يكن يكفي لموازاة الحملة الشرسة على هذا الجهاز الأمني الوطني والشريف في فلسطين؛ ولأول مرة!
حتى كتّاب كبارٌ أعلامٌ ومحللون فلسطينيون وعرب سقطوا وتساقطوا وتباروا في تقريع القوة أول ما ظهرت؛ وراحوا يرمون أفرادها الأبطال بأشنع الصفات؛ وأنهم تحولوا من مجاهدين قساميين إلى "مُشرّفاتية" لقادة حماس. للأسف قال بعضهم هذه الكلمة بكل جهل وانعدام للاطلاع؛ ورمى عشرات الشهداء ومشاريع الشهادة بكل خفة؛ ظنا منه أن هؤلاء المقاتلين هم من جنس حرس الشرف الذين يصبون القهوة لأمثاله في المطارات العربية حين يدخل من باب كبار الزوار؛ أو هم من جنس حواشي الملوك والأمراء الذين يزحمون المصايف حيث يراهم؛ ونسي – أو ربما تناسى حتى يتسنى له ركوب الموجة – أن القوم مطاردون؛ ولا يأخذون رواتب منتظمة مقابل عملهم؛ وأن قادة حماس يسافرون من رفح إلى العريش فالقاهرة في سيارة أجرة وليس في "رولز رويس" تتبعها الدراجات النارية ومصفحات الدفع الرباعي. وحين بدأت الصواريخ الصهيونية من السماء ونيران قناصة الغدر تحصد الأبطال – في مرحلة ما قبل التطهير الشريف في غزة – لم يكلف صحافيو المواقف المسبقة المعلبة أنفسهم عناء الاعتذار لهذا الجهاز وفرسانه عما لحق بهم من قذف خفيف ورخيص. لكن أليس هذا هو حال الإسلاميين مع الإعلام العربي بعامة؟ أهْوَنُ خصم عليهم وأسهل من يعتدى عليه؟
والآن بين يدي الجمعة الماضية؛ أقام البعض الدنيا ولم يقعدها بخصوص صورة ضرب مصلّي الضرار. وحاول هؤلاء عن جهل مبعثه العاطفة الضالة الخرقاء التي يتحكم فيها التلفاز؛ أو ربما عن عمدٍ بداعي الانحراف والتماهي مع منهج الباطل- حاولوا تلخيص الصراع بين حماس وفتح في تلك الصورة؛ وبلغ الاسفاف حدًّا اخْتُزِلَ فيه الخلاف في مشهد كاريكاتيوريٍّ حرص فيه ملاحدة وعلمانيون لم يتوضأوا يوما ولم يستقبلوا قبلة قط أو كادوا – حرصوا بشكل محموم على إقام صلاة العراء! أما حين سمع الفقير لربه بفتاوى لمشايخ يبيحون صلاة العراء من على صفحات "روز اليوسف" – المجلة الحريصة على شعائر الله كثيرا جدا! - فقد أيقنت أنه آن حتى لجحا أن يمد رجليه؛ ناهيك طبعا عن أبي حنيفة وشيوخه وتلاميذه ومريديه والأمة الإسلامية بعامة!
لا أنكر أن صورة ضرب مصلّي الضرار قاسية؛ ولا أنكر أنه كان هناك متسع لنقل الخارج عن القانون إلى المخفر وإنزال العقوبة فيه هناك سجنا أو غرامة أو حتى جلدا كما يفعل المسلمون وكما تفعل الشرطة في "سنغافورة"؛ لكنني أكره وبشدة الخفة والتسطيح في تناول القضية. كرهت أولا الاستخفاف الذي قزّم الصراع إلى معركة فقهية بين مؤيدي الصلاة تحت الشمس ومعارضيها. لم تكن تلك نقطة الخلاف الجوهرية؛ وأصل البلاء هو أن هناك من يلوي أذرع الناس بالرواتب وقطع الأرزاق ليخرجوا من أجل دايتون في صلاة ضرارية لا تقيم من معاني الصلاة معنى؛ واختتمت في جمعتين سبقتا بالتخريب والاعتداء على الأملاك الخاصة والعامة!
ولذلك فإن منع هذه الصلاة التي نظمها ملاحدة وعلمانيون لم يكن مُسَوِّغُه أنها خارج المسجد وحسب أو أنها أعرضت عن جماعات قريبة في المساجد دون سبب شرعي؛ بل إن مثل هذه الصلاة بمثل هذه الأجندة تحرم ويجب أن تحارب حتى لو قامت في رحاب الأقصى والحرم المكي معه! فمآلات هذه الصلاة وأسسها هي التي حرّمتها وليست الحرمة متصلة بالتسطيح السخيف بخصوص جواز الصلاة في الهواء الطلق من عدمه.
ثم كرهت اختزال سمعة القوة التنفيذية في مفاعيل صورة الضرب وحسب. فالصورة لم تمثل إلا صاحبها ممن أفرط في استخدام القوة؛ ولا يجوز بحال أن يحكم على الجهاز كله بفعل عدد من أفراده. هذا بخلاف حقائق أخرى هامة وطاغية لا يصح تجاهلها في هذا المقام؛ وأحسن ما يوجزها هنا هي قصة الصفعة التي تعرض لها مراسل الحياة اللندنية في غزة صبيحة تلك الجمعة نفسها.
فقد فوجيء الصحافي "فتحي صباح" - بينما كان يتكلم مع الناطق باسم الحكومة الأستاذ طاهر النونو – بصفعة تدوي على صدغه؛ ولم تكن هذه الصفعة من يد رجل أمن من القوة التنفيذية ساءته أسئلة صباح التي حملت في حينه نفسا مؤيدا لطرح فتح؛ بل كانت من يد أستاذ جامعي حاصل على درجة الدكتوراة من الولايات المتحدة وفي تخصص هندسي مهم.
الدكتور الجامعي جمال الزبدة – الذي صدف تواجده في نفس المكان حيث تواجد الفريق الإعلامي الذي يتحرك مع الأستاذ النونو – وجه صفعة لفتحي صباح واتهمه بالتحريض! وهذه الحادثة برأيي – تحديدا ما فيها من إفراط وتطرف - تؤكد أن ما صدر عن بعض أفراد القوة التنفيذية لم يكن قسوة تخص هذا الجهاز وحده؛ ولم تكن شهوة للاستقواء تخص مسلحي حماس؛ بل كل من في غزة الآن من أنصار المشروع الطهري التحريري الوطني يمرون في حالة احتقان كبرى لا يقدِّرها أحد من المنتقدين؛ ولا يبدو أن وسائل الإعلام والجمهور العربي البعيد يحسب حسابها.
فهل جرب أحد من الذين يتهمون القوة التنفيذية بالقسوة والإفراط في استخدام القوة أن يكون هو شخصيا مطوقا بأعتى أدوات الحرب في شريط رملي ضيق مثل قطاع غزة؛ مع حصار بري وبحري وجوي محكم؛ يعززه حصار الأخ الشقيق العربي الوحيد المجاور؛ ويسنده انقلاب خياني عصف بحركة فتح ؛ ثم يفكر في الوقت نفسه في انقطاع الكهرباء والغذاء؛ وربما قطع الأعناق إن قررت "إسرائيل" أن "تحرر" القطاع لمصلحة شواذ ومفحشي فلسطين من أيتام دايتون من عملها غير الصالح؟ هل وضع أحد من المنتقدين نفسه في مكان أي عنصر من عناصر التنفيذية؛ وتحسس وجهه وتذكر الاعدامات التي كانت تجري في مقر محمود عباس لكل ذي لحية؛ والاحتمال – القائم نظريا على الأقل – لحدوث مقتلة لكل من خرجوا على الصهاينة وعملائهم لو انتصرت حملة باراك على القطاع لا سمح الله؟
ومع كل هذا الضغط النفسي الهائل؛ فإن الحكومة الشرعية قررت التحقيق فيما جرى من تجاوزات – بما في ذلك الاعتداء على بعض الصحافيين – وفي سلوك يصر على أن لا تحجب صورة شائهة واحدة "ألبوم" صور مشرقة بدأت من العفو عن المجرمين بعد التطهير؛ ولم تنته عند استعادة أمن غزة ممن سلبوها إياه بالمخدرات والإسقاط والعمالة؛ ولا تتميز فقط بأن الإعلام والصحافة والمراكز الحقوقية تتحرك كلها في غزة تصور وتكتب التقارير؛ في حين أن كبريات المؤسسات الإعلامية العالمية – الجزيرة ومن في حجمها – تعجز عن نقل شقِّ خبر عما يجري في الضفة من فظائع!
فهل يصح بعد هذا كله – أيها الجمهور العربي - نزع صورة واحدة من سياقها؛ وحكاية القصة من أوسطها؛ دون احتساب تأثير الجو المحيط بالحدث والمقدمات والنهايات؟
ولكن كما كانت صواريخ إسرائيل أول الشهود بعدالة التنفيذية من السماء؛ فإن وحدات المستعربين على الأرض كانت شاهدا قسريا آخر! ففي الحادثة الأخيرة المحزنة لاختطاف أحد مسؤولي القوة التنفيذية من منطقة قرب حدود القطاع وردت تفصيلة مهمة تلخص حكاية القلب الكبير لكل إسلامي؛ وخصوصا قلوب أبناء القوة التنفيذية وخريجي مدرسة حماس. فالأخ الذي تم الإيقاع به تم استدراجه للخديعة لا عن طريق ساقطة – كما حصل ويحصل مع من تعرفون – ولا عن طريق غنيمة مخبوءة وعد بها؛ بل كان السر خلف نزوله من السيارة والوقوع في الكمين هو أنه أشفق على الرجل العجوز الذي تماشى أمامه متعثرا؛ والذي حين امتدت له يد المساعدة ظهر على حقيقته كعميل استخباري مسلح! هل ترون معي الأمر اللافت في هذا المشهد؟ لقد بلغت الرقة في قلوب أبناء حماس والتنفيذية محلا أن جعل الاستخبارات الصهيونية تتكئ على هذا العامل للإيقاع بالهدف؛ واطمأنت قلوب المجرمين إلى أن الرحمة والرأفة في فؤاد ابن التنفيذية - وإن كان ما جرى تقصيرا أمنيا فادحا وكبيرا – هي مدخل أساس لنجاح عملية أمنية حساسة لا زال أولمرت يشيد بنجاحها في العشي والإبكار!
أفبعد هذا كله نسمع في التنفيذية سوءًا من فتح أو من سياسييها ونصدق أنهم غلاظ قساة ومتوحشون كما يصورهم الخيال المريض لصندوق العجب المسمى تلفزيون فلسطين؟!