المرونة والتطور في الشريعة الإسلامية
يقول الله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } يبين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن الإسلام هو الدين الذي رضيه الله لعباده ، وهو الشريعة الكاملة والمنهج الصحيح الذي يعالج مشكلات البشر وما عدا ذلك من فهم فإنه يناقض الكمال الذي نصت عليه الآية ويتعارض مع رضا الله بالإسلام كدين والذي وضحته الآية الكريمة وضوحاً تاماً .
فالشريعة الإسلامية أحاطت بجميع أفعال الإنسان إحاطة تامة شاملة ، فلم يقع للإنسان شيء في الماضي ولا يعترض الإنسان شيء في الحاضر ولا يحدث للإنسان شيء في المستقبل إلا ولكل شيء من ذلك حكم في الشريعة الإسلامية ، قال تعالى { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } ويقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : " تركتكم على محجّة بيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك " .
والشريعة الإسلامية عندما تعالج مشاكل الإنسان في جميع الأزمنة والأمكنة بأحكامها مهما تجددت وتنوعت تلك المشاكل فهي إنما تعالج مشاكل الإنسان بوصفه إنسانا ليس غير ، ذلك أن الإسلام هو دين الله الذي أنزله لكل البشر وهو المنهج القادر على حل مشكلات كل البشر ، مهما اختلفت ألوانهم وبيئاتهم وأجناسهم وأماكن عيشهم وأزمنتهم .
ذلك أن الإنسان هو الإنسان في كل مكان وزمان ، في غرائزه وحاجاته ، فكذلك أحكام معالجاته لا تتغير ، أما ما يتجدد من مطالب الإنسان المتعددة فقد جاءت الشريعة بأحكام هذا المتجدد من المطالب ، لذا كان ذلك سبباً في نمو الفقه وازدهاره .
فالإجارة عندما ترد في قوله تعالى{ فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } فإن هذه الآية يستنبط منها حكم شرعي وهو أن المطلقة تستحق أجرة الرضاع ، ويستنبط منها أن الإجارة عقد على المنفعة بعوض وهي تنطبق على إجارة العامل أو الفلاح أو الموظف كما تنطبق على إجارة السيارة والطائرة وهكذا .
والآية عندما تقول { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } فإن ما يستنبط من هذه الآية هو وجوب الإعداد لإرهاب أعداء الله ، وكما كان الإعداد في الماضي بالرماح والسهام والسيوف فإنه يجب أن يكون الآن بمصانع الأسلحة والطائرات والدبابات وأدوات الحرب الحديثة وهكذا .
فهذا الاتساع بالنصوص لاستنباط أحكام متعددة لمشاكل متعددة ، هو الذي جعل الشريعة الإسلامية وافية بمعالجة مشاكل الحياة في كل زمان ومكان وفي كل أمة وجيل وقد قيل قديماً وهو قول حق أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان .
وسعة الشريعة الإسلامية لكل مشكلات الإنسان الماضية أو الحاضرة أو المتجددة لا تعني أن الشريعة الإسلامية مرنة بحيث أنها تنطبق على كل شيء ولو ناقضها ، فإن المرونة مفهوم خطير ألصق بالإسلام ليجعل منه لباساً مهلهلاً يقبل أي فكر أو مفهوم أو رأي ولو ناقضه وخالفه .
ذلك أنه بعد أن نهض الغرب بفصلهم الدين عن حياتهم وعزلهم للسلطة الكنسية عن واقع الحياة فإنهم التفتوا للإسلام والمسلمين وبدؤوا يعرضون على المسلمين حلولا لمشاكل الحياة المتجددة عندهم ، ويطلبون من المسلمين أن يقدموا حلولا من الإسلام لها ، فما كان من المسلمين وهم في أشد حالات ضعفهم إلا أن يقبلوا حلول الغرب على أنها من الإسلام فقالوا بتحرر المرأة وقالوا بالاشتراكية والديمقراطية وحرية الرأي والحرية الشخصية وجعلوا كل ذلك من الإسلام مدعين أن الشريعة الإسلامية ليست جامدة بل هي مرنة تقبل كل شيء ، ونسوا أو تناسوا أن الإسلام قام على عقيدة راسخة وأنه جعل هذه العقيدة مقياس كل الأفكار وجعل الحلال والحرام مقياس كل الأعمال فالله تعالى يقول { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " .
وكون العقيدة مقياساً لكل شيء أن تكون المعالجات مأخوذة من نصوص الشرع وليس من الهوى والعقل فكل ما لم يأت به الإسلام من معالجات لمشاكل الإنسان فهو من غير الإسلام ولا يجوز أخذه ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " ، فمثلا نجد أن المسلم مقيد بأحكام الشرع ولا يملك أن يعصي الله تعالى بحجة الحرية الشخصية ، وهو إن فعل ذلك نال العقوبة على معصيته إن كان في الدنيا بمعاقبة الحاكم له أو كان في الآخرة بعقاب الله عز وجل ، فلا يحل لمسلم أن يزني بحجة الحرية الشخصية ولا يحل له أن يهزأ بالقرآن بحجة حرية الرأي ولا يحل له أن يرتد عن دينه بحجة حرية العقيدة ، ذلك أن مجرد الدخول في الإسلام يعني الانقياد لله تعالى في كل شيء { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } .
وكذلك المرأة فإنه لا يحل لها أن تكشف عن عورتها بحجة تحرر المرأة ، وهي إن فعلت ذلك استحقت التعزير من الحاكم والعقوبة من الله تعالى ، وهكذا فكل تصرفات المسلم وآراءه وأقواله مقيدة بحكم الشرع ، بل وغير المسلم ، فالكافر الذمي تطبق عليه أحكام الإسلام مثل المسلم سواء بسواء فلا يحل له أن يرتكب المعصية بين المسلمين بحجة أنه غير مسلم ، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم عامل أهل الذمة حسب أحكام الإسلام وفي حديث جابر بن عبد الله قال : " رجم النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا من اليهود وامرأة " لذلك فإن القول بمرونة الشريعة لتقبل كل شيء هو قول خطير ومن أسوأ عواقبه أن يضيع ديننا فنقبل ما ليس منه على أنه منه وفي ذلك خسران الدنيا والآخرة .
والقول بتطور الشريعة لا يقل خطرا عن القول بمرونتها ، إذ أن التطور يعني الانتقال من حال إلى حال ويعني التبدل مع الزمن ، والقول بتطور أحكام الإسلام يعني أن أحكام الإسلام تتبدل وتتغير مع الزمن فهي تتطور ، لذلك لا عجب أن يكون حكم الله في المسألة أنها حرام وبالتطور تجدها حلالاً ولا عجب أن يكون حكم الله في المسألة أنها حلال وبالتطور مع الزمن يصبح حكمها حراماً ، وهكذا ، لذلك وجد في المسلمين من جارى الغرب في أفكاره فقال بأن أحكام الإسلام تتغير بتغير الأزمان ، فوجدنا في المسلمين من يقول بجواز تعدد بلاد المسلمين ومن يقول بجواز الاستعانة بالكفار والتنازل لهم عن أرض المسلمين ومن يقول بجواز الربا وغير ذلك مما ألبس على المسلمين دينهم ، في حين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم فاقتلوه " وغير ذلك من الأدلة التي تحرم تجزئة بلاد المسلمين وتأمر بوحدة المسلمين تحت راية خليفة واحد ، كما وجد من يقول بأن قطع يد السارق وحشية فيستعاض عنها بالسجن ، كما وجدت في القوانين الوضعية المعالجات التي تبيح الزنى وتقصر عقوبته على الأزواج ، وغيرها ، وغيرها من المفاهيم والآراء والأفكار والمعالجات التي قلبت الحلال حراماً والحرام حلالاً وكل ذلك بحجة التطور والتجديد .
إن أحكام الله تعالى لا تتغير ولا تتبدل فحكم الله في السارق هو قطع يده سواء أسرق السارق في سنة عشرة للهجرة أم سرق في سنة ألفين للهجرة ، والزنا هو الزنا سواء أوقع في عهد أمير المؤمنين أم وقع في عهدنا هذا ، لا يغير من واقع حد السرقة أن تغيرت أشكالها وصورها ونظرة النّاس للحد من عدمها ، كما لا يغير من واقع حرمة الزنا رواجه لدى الغرب أو إباحته في بلاد المسلمين أو غير ذلك .
لذا يجب علينا كمسلمين أن نفقه أحكام ديننا وأن نحافظ عليها من التغيير والتبديل ولا يكون ذلك إلا بتطبيقها التطبيق الصحيح في الكيان الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو كيان الخلافة .
والسعة في الشريعة الإسلامية لا تعني أنها مرنة لتنطبق على كل شيء ولو خالفها كما لا تعني التطور لتتغير أحكامها وتتبدل مع الزمن ولكنها تعني أنها الشريعة الكاملة الشاملة الحاوية لمعالجات كل المشاكل التي تطرأ للإنسان وذلك وفق طريقة ثابتة لا تتغير وهي أن تكون هذه المعالجات من الوحي أي قام الدليل الشرعي عليها سواء أكان هذا الدليل هو القرآن الكريم أو السنة المطهرة أو إجماع الصحابة الكرام أو القياس .
ولا يمكن أن تستنبط المعالجات من الأدلة الشرعية إلا بوجود الراعي الذي يطبق أحكام الإسلام تطبيقا صحيحاً ، ويوجد المجتهدين في الأمّة الذين يكون دورهم هو فهم النصوص الشرعية واستنباط الأحكام الشرعية منها لما يستجد من مشكلات .
وهذا ما كان عليه المسلمون عندما كانت لهم دولة قائمة على الإسلام في قوانينها وسياستها ورعايتها للناس مسلمين كانوا أم غير مسلمين .
غفر الله لي ولكم