أبن الأثير
أتكلم اليوم عن شخصية إسلامية فذة، عن رجل اثرى المكتبة العربية الإسلامية بما قضى من الساعات النفيسة في البحث والتقصي عن المعلومات التاريخية، وتأصيل المعلومات، والتحري عن الأحداث التي جرت، منذ نشأة الأرض والسموات، هذا الرجل الذي كتب التاريخ بروج متوثبة، رغم قلة الإمكانات، وصعوبة ايجاد البحوث المطبوعة\، والمفهرسة في الكتبات وغيرها كالتي نعايشها اليوم. أتكلم عن رجل سهرت عيناه وهو يبحث في مخطوطات من سبقه من العلماء والمؤرخين، هذه المسألة كانت بمثابة عمل جبار خصوصاً في ذلك الزمن.
اتكلم العالم والمؤرخ أبن الأثير، أما أسمه فهو عز الدين أبي الحسن علي الشيباني، ولد في عام 555، وتوفي في عام 630هـ، هذا العلم كان من أهم العلماء في تاريخ المسلمين ، خاصة معايشته لواقع المسلمين في عصر صلاح الدين الأيوبي ماحق الصليب وأهله، وقاهر المحتلين، ومحرر المسجد الأقصى، لقد كانت تلك المرحلة العصيبة من تاريخ الأمة المسلمة، مؤثرة أيما تأثير في مخيلة المؤلف الفذ أبن الأثير، وكان كتابه الكامل في التاريخ صفحات ناصعة من الامجاد التاريخية لفرسان الإسلام، أما صفحاته السوداء فكانت لخونة الأمة من أمثال ابو لؤلؤة المجوسي ، ومنافقي المدينة، وألأحزاب المرتدة، والفرق الضالة وغيرهم، وابن العلقمي ، وغيرهم ، لقد أرخ كتابه الكامل في التاريخ تأليفاً راقياً ، وأسلوباً يسيراً، ودقة في التأصيل ، وجمالاً في التعبير، فما أجمل ما ابدع رحمه الله رحمة واسعة.
أما حياته فقد ولد في جزيرة ابن عمر، ثم انتقل إلى الموصل، وكان يتردد على بغداد، حفظ القرآن الكريم، واهتم بأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فدرس على يد أبي الفضل عبدالله بن أحمد، وأبي الفرج يحيى الثقفي، وتردد على حلقات الذكر في مساجد الموصل، ثم رحل إلى القدس والشام. وأرض الشام معروفة بوفود طلبة العلم إليها ، فكانت حافلة بالعلم والمكتبات، وأهل العلم والفتيا، فتعلم العلوم الفقه والحديث والأصول والفرائض، والمنطق، والقراءات، إلا أنه فضل أن يتخصص في علم الحديث والتاريخ. فأبدع فيهما ايما إبداع.
كان مبدعاً عظيماً في كتابة التاريخ ، وتحليل الحوادث ، ونقدها ، وتعليل الظواهر التاريخية التي حدثت ، وفي الكتاب نقد سياسي وحربي وعلمي وأخلاقي، وقد أكمل ما توقف عنده الإمام الطبري في تاريخه ، حيث توقف الطبري رحمه الله في سنة 302هـ، وهي السنة التي انتهى بها كتابه. وتوقف الانتاج التاريخي لمدة ثلاثة قرون ، إلا أن شمر فارس الأمة ابن الأثير عن ساعديه، وبدأ يكتب عن تلك الحقبة الزمنية المهمة في تلك المرحلة، والحرجة، والتي سفكت فيها الدماء بشكل بربري همجي ، سواء من التتار ، او من الصليبيين، كان يكتب ابن الأثير بأسلوبه الشيق الرائع من دون تكلف ، ولا سجع ، بل كان سهلاً طيعاً ، وهذا مما جعله مميزاً، كذلك ابدع رحمه الله في كتابه أسد الغابة، والذي ترجم فيه عن أعداد كبيرة من الصحابة رضوان الله عليهم، وقد كتب رحمه الله في هذا الكتاب عن سبعة ألاف وخمسمائة وأربعة وخمسون صحابي وصحابية، فما أجزل ما قدم، وما اروع ما أبدع رحمه الله رحمة واسعة ، وجعل ما قدم حجة له لا حجة عليه، وإلى اللقاء مع شخصية أخرى.